يقول ابن القيم : "ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر في الذهن، لا حقيقة له، وإنما غايته أن يفرضه الذهن ويقدره، كما يفرض الأشياء المقدرة".
وهنا قضية مهمة جداً، وهي: الفرق بين الوجود الحقيقي والوجود الذهني، فالوجود الحقيقي: هو كل ذات موجودة في الخارج، مثل: فلان من الناس، أو جبل، أو شجر، أو بحر، فهذه ذوات موجودة في الخارج.
والوجود الذهني: هو ما يفترض الذهن وجوده، وليس له وجود خارج الذهن ولا حقيقة له، مثل: قواعد العلوم، أو المعادلات الرياضية، والكيمائية، فهذه كلها أشياء تقدر في الذهن، ولا يوجد شيء منها في الخارج، فمثلاً: يقولون في النحو: الفاعل والمبتدأ والخبر مرفوعات، فما الذي جعلها مرفوعة؟ وما الذي نصب المنصوب؟ فنجد أنهم قدروا العامل ذهنياً، وقالوا: هذه كلها أشياء ذهنية وليس منها شيء حقيقي موجود.
فهؤلاء الملاحدة جعلوا الله تبارك وتعالى، وجعلوا أمور الغيب أموراً ذهنية فقط وليس لها وجود؛ ولذلك كانوا أكفر الناس، وكانوا أبعد الناس عن الإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ لأنهم جردوه عن كل صفة، فهو -عندهم- لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا شماله؛ لأنه عندهم لا يوصف بشيء؛ بل هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق.
ثم بين ابن القيم أن الفرق بين هذا الرب الذي تخيلوه، وبين الرب الذي دعت إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، هو الفرق بين الوجود والعدم، والنفي والإثبات، ثم قال: "فأي موجود فُرِضَ كان أكمل من هذا الإله الذي دعت إليه الملاحدة، ونحتته أفكارهم؛ بل منحوت الأيدي من الأصنام له وجود، وهذا الرب ليس له وجود، ويستحيل وجوده إلا في الذهن" فحتى الأصنام المنحوتة لها وجود، أما هذا الرب الذي يقدرونه فليس له وجود عندهم إلا في الذهن، وعليه فإن من عبد الأصنام أفضل منهم؛ لأن لها وجوداً على الأقل، وعبادها عبدوا شيئاً ما، أما هذا فليس له وجود أبداً.